الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويستعمل الزعم في الخبر المحقّق بالقرينة، كقوله: فقوله: {صدقوا} هو القرينة، ومضارعه مثلّث العَيْننِ، والأفصح فيه الفتح. وقد كان الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت من المنافقين، كما هو الظاهر، فإطلاق الزعم على إيمانهم ظاهر. وعطف قوله: {وما أنزل من قبلك} لأنّ هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود، وقد دخل المعطوف في حَيّز الزعم فدلّ على أنّ إيمانهم بما أنزل من قبل لم يَكن مطّردًا، فلذلك كان ادّعاؤهم ذلك زعمْا، لانتفاء إيمانهم بالتوراة في أحوال كثيرة مثل هذا، إذ لو كانوا يؤمنون بها حقّا، لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهّان، وشريعة موسى عليه السلام تحذّر منهم. وقوله: {يريدون} أي يحبّون محبّة تبعث على فعل المحبوب. والطاغوت هنا هم الأصنام، بدليل قوله: {وقد أمروا أن يكفروا به}، ولكن فسّروه بالكاهن، أو بعظيم اليهود، كما رأيت في سبب نزول الآية، فإذا كان كذلك فهو إطلاق مجازي بتشبيه عظيم الكفر بالصنم المعبود لغلوّ قومه في تقديسه، وإمّا لأنّ الكاهن يُتَرجم عن أقوال الصنم في زعمه، وقد تقدّم اشتقاق الطاغوت عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: 51] من هذه السورة. وإنّما قال: {ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالًا بعيدًا} أي يحبّ ذلك ويحسنّه لهم، لأنّه ألقى في نفوسهم الدعاء إلى تحكيم الكهّان والانصراف عن حكم الرسول، أو المعنى: يريد أن يضلّهم في المستقبل بسبب فعلتهم هذه لولا أن أيقظهم الله وتابوا ممّا صنعوا. والضلال البعيد هو الكفر، ووصفه بالبعيد مجاز في شدّة الضلال بتنزيله منزلة جنس ذي مسافة كانَ هذا الفرد منه بالغًا غاية المسافة، قال الشاعر: . اهـ. .من فوائد الشعراوي في الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}. نعرف أن {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم، إن كان المعلوم قد سبق الحديث عنه، أو إن كان المعلوم ظاهرًا حادثًا بحيث تراه، ونعرف أن الحق عبّر بـ {أَلَمْ تَرَ} في كثير من القضايا التي لم يدركها المخاطب وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدلنا على أن ما يقوله الله- وإن كان خبرًا عما مضى- يجب أن تؤمن به إيمانك بالمرئى لك الآن، لأن الله أوثق في الصدق من عينك؛ فعينك قد تخدعك، لكن حاشا أن يخدعنا الله. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. والزعم: مطية الكذب، فهم {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو القرآن؛ {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}، وهو التوراة والإنجيل و{يُرِيدُونَ} بعد ادعاء الإيمان؛ {أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}، والتحاكم إلى شيء هو: الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهي قضية الخلاف. فعندما نقول: تحاكمنا إلى فلان، فمعنى قولنا هذا: أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان أن يتحاكما إلى شيء إلا إذا كان الطرفان قد أجهدهما الخصام، فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كُلًا منهما. {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}. {الطاغوت}- كما عرفنا- هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغيانًا، فهناك طاغٍ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقًا لقول الحق: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]. وهذا اسمه طاغوت مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدى الكثير الطغيان سواء أكان أناسًا يُعبدون من دون الله ولهم، تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان الذي يُغري الناس، أم كان حاكمًا جبّارًا يخاف الناس شرّه، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتًا. وقالوا: لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فتقول رجل طاغوت، ورجلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة: 257]. ويأتي للمفرد كقوله الحق: {وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60]. إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجا سببًا مخصوصًا نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول: إن حكمًا نزل لقضية معينة ولا يُعدَّى إلى غيرها، هو يُعدَّي إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب. لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه بشر. حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى كعب بن الأشرف، وكان اليهودي واثقًا أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي حبًا فيه، بل حباُ في عدله، ولذلك آثر مَن يعدل، فطلب حكم رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفي كفره فهو الذي قال: نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}. وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل كعب بن الأشرف لأنه يعرف أنه يرتشي. ويختم الحق الآية: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا} فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو كعب بن الأشرف؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يُحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى {ضَلاَلًا بَعِيدًا}، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتدًا. اهـ. .فوائد لغوية وإعرابية: الزَّعم بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم، وإنما يُريدُون به اعتِقادٌ ظَنِّيٌّ؛ قال: [الطويل] قال ابنُ دُرَيْد: أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ، وقال- عليه الصلاة والسلام-: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا». وقال الأعْشى: [المتقارب] فقال المَمْدُوح: وما هُو إلا الزَّعْم، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِهِ شَيْئًا، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِبًا على انَّ وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب، وقول الآخر: [الخفيف] قيل: ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ. قال الليث: أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون: زَعم فُلانٌ؛ إذَا شَكَّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق؛ وكذلك تَفْسِير قوله: {هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] أي: بقولهم الكَذِب. قال الأصْمَعِيّ: الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرابِيّ: الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت: [المتقارب] وزعم تكُون بمعنى: ظَنَّ وأخَوَاتِهَا، فيعَدَّى لاثْنَيْنِ في هَذِه الآيةِ، وأنَّ سادَّةٌ مَسَدَّ مفْعُوليها، وتكون بمعْنًى كَفَل فتتعدى لِوَاحِدٍ؛ ومنه: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وبمعنى رَأس، وكذب وسَمُن، وهَزُلَ، فلا تتعَدَّى، وقرأ الجمهور: {أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} مبنيًا للمَفْعُول، وقُرِئا مبنيِّيْن للفاعِلِ، وهو الله تعالى. قوله: {يُرِيدُونَ} حال من فَاعِل {يَزْعُمُونَ} أو من {الذين يَزْعُمُونَ}. وقوله: {وَقَدْ أمروا} حال من فَاعِل {يُرِيدُونَ} فهما حالان مُتَدَاخِلان، {أَن يَكْفُرُواْ} في مَحَلِّ نَصْب فقط إن قدَّرْت تعدية أمر إلى الثَّانِي بِنَفْسِه، وإلا ففيها الخِلاَفُ المَشْهُور، والضَّمِير في بِهِ عَائدٌ على الطَّاغُوتِ، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويُؤنَّث، والكلام عليه في البقرة. وقرأ عبَّاس بن الفضل: {أن يكفروا بهن}، بضمير جَمْع التَّأنيث. قوله: {أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا} في {ضَلاَلًا} ثلاثة أقوال: أحدُها: أنه مصْدَرٌ على غير المَصْدَر، نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17]، والأصْل إضلالًا وإنباتًا فهو اسْم مصدر لا مَصْدَر. والثاني: أنه مَصْدَر لمطَاوع {أَضَلَّ} أي: أضَلَّهُم فَضَلُّوا ضَلاَلًا. والثالث: أن يَكُون من وَضْعِ أحد المَصْدَرَيْن مَوْضِع الآخَر. اهـ. بتصرف. .تفسير الآية رقم (61): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت، ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {وإذا قيل لهم} أي من أي قائل كان {تعالوا} أي أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم {إلى ما أنزل الله} أي الذي عنده كل شيء {وإلى الرسول} أي الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع أنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة، رأيتهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف الذي دل على كذبهم فيما زعموه من الإيمان فقال: {رأيت المنافقين يصدون} أي يعرضون {عنك} وأكد ذلك بقوله: {صدودًا} أي هو في أعلى طبقات الصدود. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: قال المفسرون: إنما صد المنافقون عن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا ظالمين؛ وعلموا أنه لا يأخذ الرشا وانه لا يحكم إلا بمر الحكم، وقيل: كان ذلك الصد لعداوتهم في الدين. اهـ. قال الفخر: يصدون عنك صدودا، أي يعرضون عنك، وذكر المصدر للتأكيد والمبالغة كأنه قيل: صدودا أي صدود. اهـ. .قال الألوسي: ولا حاجة إلى القول بأن تعالى الأولى: مفتوحة اللام، والثانية: مكسورتها للقافية كما لا يخفى، وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم. اهـ.
|